تحديث الاستبداد في العالم العربي

 

ستيفن هايدمان*

 

 

لقد تكيفت الأنظمة العربية مع الضغوط الهادفة لإجراء تغيير سياسي، إذ تبنت استراتيجيات قادرة على احتواء مطالب التغيير الديموقراطي والتعامل معها بشكل فعال فوسعت بعض المجالات السياسية - الانتخابية خصوصاً - حيث يمكن للنزاعات السياسية أن تظهر بأشكال مضبوطة ومسيطر عليها كما خففت الأنظمة العربية أيضاً من معارضتها لمشاركة الإسلاميين في السياسة. كما حدث في بعض الحالات مثل مصر والأردن والمغرب حيث أمّن الإسلاميون تمثيلاً ذا مغزى لهم في البرلمان وتكيفت الأنظمة انتقائياً مع مطالب الليبرالية الاقتصادية واندماج الاقتصاديات العربية مع الأسواق العالمية، وزيادة الفرص وتوسيعها.

أما النخب الاجتماعية والاقتصادية، فاعتمدت تقنيات تمكنها من حسن إدارة الانترنت وتكنولوجيا الاتصال الحديثة، وسهلت وصول الجماهير إليها، وهي التكنولوجيا التي اعتبرت حتى وقت متأخر ناقلا محتملا للأفكار الديموقراطية، وبالتالي قوى يجب مقاومتها، وأدركت أن الحكم الاستبدادي ليس على تعارض مع تقوية مقدرة الدولة وتحسين الخدمات العامة عبر برامج مثل إصلاح الإدارة المدنية والإصلاح التعليمي وإصلاح سوق العمل، بل قد يعتمد بقاؤها في الواقع عليها واشتمل التحديث على تغيرات في السياسة الخارجية، حيث اتجهت إلى التركيز على التجارة وتوظيف رؤوس الأموال والعلاقات السياسية مع دول تشاطر أو تتعاطف مع الاهتمامات السياسية للأوتوقراطية العربية في المشرق وشمال أفريقيا، غير مبالية إلى حد كبير بقضايا حقوق الإنسان والديموقراطية. هذه ليست «لعبة صفرية النتائج» حيث يكون اللاعب فيها إما رابحاً أو خاسراً وبينما واصلت الأنظمة العربية بناء علاقات تجارية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، خلق لها التنوع الاقتصادي والسياسي مصادر قوة جديدة في هذا النظام العالمي الوحيد القطب، وقلل من الآثار الاقتصادية والديبلوماسية للغرب عليها وبعبارة أخرى، فإن جوهر تحديث الاستبداد لا يكمن في إغلاق المجتمعات العربية وسد منافذها بوجه العولمة وقوى التغير السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأخرى، ولا يعتمد أيضاً على رغبة الحكومات العربية في قمع خصومها، وإنما بإعادة تشكيل الحكم الاستبدادي ليتلاءم ويتعامل مع الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتغيرة وقد بدأت، في جزء كبير منها، كرد دفاعي إزاء التحديات التي واجهت الأتوقراطية العربية خلال العقدين الماضيين.

وقد تسارعت عملية التحديث في السنوات الأخيرة مستفيدة من الإخفاقات الأميركية في العراق. واقتران تعزيز الديموقراطية بالطرائق العنيفة لتغيير النظام، بالعنف الاجتماعي والفوضى السياسية، ومع ذلك، فملامحها الجوهرية شكلها الانشغال بالكيفية التي يحافظ بها الحكم الاستبدادي على بقائه في عصر انتشار الديموقراطية عالمياً، أكثر مما هي استجابة لتجربة الولايات المتحدة في العراق.

يأخذ التحديث أشكالاً متنوعة، يتأثر كل منها بالضغوط الخاصة التي تواجه الأنظمة الفردية، وبالتالي فإن من الخطأ المبالغة في تماسكها، وليس هناك نموذج أو قالب وحيد اتبعته الأنظمة العربية. ولا ينبغي لنا أن نبالغ في مقدرة الأنظمة على تبني سياسة التجديد وتنفيذها ولكن الذي يبدو واضحاً أن ما يمكن أن نطلق عليه «التعليم الاستبدادي» هو الذي شكل تحديث الاستبداد. فالدروس والاستراتيجيات التي نشأت داخل وخارج الشرق الأوسط انتقلت عبر المنطقة من نظام إلى نظام وحدثت فيها عدة تعديلات خلال هذه العملية وهكذا تعلمت الأنظمة من بعضها البعض - عبر تبادل واضح للخبرات غالباً - ولكنها تعلمت أيضاً بمراقبتها للتجارب في مكان آخر، حيث تفيد الصين كنموذج ذي أهمية خاصة بالنسبة للحكومات التي تستكشف طرائق لتحسين أدائها الاقتصادي دون أن تتخلى عن سيطرتها السياسية لذا، فما ينشأ في العالم العربي شكل هجين من الاستبدادية، يجمع استراتيجيات الماضي التي أثبتت التجربة نجاعتها (القمع والمراقبة والرعاية والفساد والمحسوبية) مع الابتكارات التي تعكس تصميم النخب الاستبدادية على الاستجابة بعدوانية للتهديد الثلاثي للعولمة والأسواق وتعميم الديموقراطية وتهدف هذه الجهود الى خلق ورعاية «تحالف استبدادي» ناشئ، تحالف يعتمد على إبقاء أسس الدعم الاجتماعي والمؤسساتي القائمة، بينما يقوي العلاقات أو على الأقل يرشو جماعات لطالما اعتبرها النظام غير موثوقة، هذا إن لم تكن بالفعل معادية والسمة المميزة للتحديث التسلطي رفع مستوى قدرة الأنظمة العربية على احتواء المقاومة الواسعة النطاق التي تقوم بها المجتمعات المدنية للاتجاهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تقوم بها هذه الأنظمة، وبنفس الوقت امتصاص تنامي مستويات المنافسة السياسية التي شهدها العالم العربي، عبر إدارة الساحات الانتخابية من زاوية منطق التحديث السلطوي فالإصلاحات تسمح بزيادة مستويات المعارضة السياسية – ولكنها تظل وفي نفس الوقت بدون معنى. وهي تضمن أن تظل الانتخابات تحت دائرة الإحكام والسيطرة مما يؤدي في النهاية إلى إبقاء النتائج الانتخابية لمصلحة الأنظمة، يضاف إلى ذلك الاستيلاء على فوائد الإصلاحات الاقتصادية الانتقائية التي وفرت للحكومات الموارد اللازمة لإدامة نظام الحكم الذي ما زال يعتمد اعتماداً كبيراً على شبكات الرعاية.

هذه التغييرات الانتقائية أيضاً أمنت موقعاً متميزاً في الصناعة العسكرية التي أصبحت عاملاً واسع التأثير على مستوى الفعاليات الاقتصادية. إن الإصلاحات المحدودة والتي تترافق مع مشاركة نخبة مختارة من القطاع الخاص في الإشراف عليها تدعم بقوة انتقائية عمليات التحرير الاقتصادي والانفتاح على تكنولوجيا وسائل الاتصال يضعف السيطرة الرسمية على المعلومات، كما يعني تآكل قدرة الأنظمة في السيطرة على وسائل الإعلام والفضائيات وتحديد محتوى وسائـط الإعلام. كما أن شبكة الانترنت بصفة خاصة توفر المساحة التي ستستغلها المعارضة في جهود التعبئة الخاصة بها إلا أن الأنظمة العربية تتلاقى في استراتيجيات المراقبة والتحكم في قدرة الجمهور في الوصول إلى تكنولوجيا الاتصالات الحديثة كما أن التحديث التسلطي في الأنظمة العربية ترافق مع الجهود المبذولة لتنويع صلاتها الدولية. فالحكومات العربية سعت إلى تعزيز الديبلوماسية والتجارة والاستثمار والعلاقات المتعددة لعزل أنفسها عن الضغوط التي تمارسها الدول الغربية والمؤسسات الدولية التي تبنت الإصلاح السياسي والاقتصادي وأظهرت استعدادها لاستخدام الشروط لوضع الإصلاح على جدول الأعمال.

هذه العوامل مجتمعة، أشّرت على ظهور أنماط جديدة من الحكم السلطوي. فقد خففت حجم الضغوط التي تعرضت لها الحكومات العربية من اجل الإصلاح السياسي والاقتصادي، وأمنت لهم الوسائل لاستغلال المكاسب من الانفتاح الاقتصادي والابتكار التكنولوجي وجعلت الأنظمة العربية قادرة على التخفيف أيضاً من بعض الضغوط الاجتماعية والسياسية المرتبطة بالإحساس بالركود على الأقل، كما أبعدتها عن مرحلة الضعف والعزلة التي طالما تجلت في التصورات العربية. كما تم رفع مستوى الفعالية بما يعود وبشكلٍ ملموس إلى أنها أظهرت فوائد ملموسة للمجتمعات العربية بدت جلية للعيان، على رغم أنها عززت الأنظمة القائمة. وليس أقلها، أنها وفرت إطاراً مكن القيادات العربية من خلالها من مد وتعزيز بناء التحالفات الاجتماعية التي تعتمدها أنظمتها وكنتيجة لتحديث الاستبداد هذا تحول المشهد السياسي في العالم العربي، فلم يعكس فحسب القدرة على الابتكار والتكيف من قبل الحكومات العربية مع المستجدات الدولية، وإنما يؤكد المدى الذي تشارك به هذه الأنظمة بنشاط في العولمة والإفادة من استراتيجيات التحكم السلطوي. فالحكومات العربية تتعلم من بعضها البعض، وتتبادل المعلومات، والتكتيكات، واستخلاص الدروس من تجارب الدول الاستبدادية خارج المنطقة كنماذج.

وكنتيجة لذلك، لم ينشأ تزايد لأوجه التشابه بين الأنظمة العربية في استراتيجياتها من الحكم فحسب، وإنما توسيع لعملية المقاربة التي تفترض الميزة التسلطية حكرا على في العالم العربي، إذ هي منطقة غالبا ما تصور على نحو فريد كنموذج في مقاومة «الموجة الثالثة» من الدمقرطة. فالممارسات المرتبطة بتحديث الاستبداد ضيّقت الخلافات بين الأنظمة العربية والعشرات غيرها من الأشكال الهجينة من الاستبداد في مناطق أخرى من العالم. وبهذا المعنى، يعكس تحديث الاستبداد القدرة على رفع مستوى تطبيع «الاستبداد العربي» وإنهاء ما يسمى بالاستثناء الشرق الأوسطي في ما يخص الديموقراطية والتغيير السياسي.

هذه العوامل هامة وعميقة ومقلقة بنفس الوقت خاصة لأولئك الذين يعملون من اجل التغيير الديموقراطي في العالم العربي. إذ الفشل في تحقيق الديموقراطية ليس نتاج المقاومة العربية للتغيير، بل لفعالية الأنظمة في التكيف مع وإدارة الضغوط من أجل التغيير التي أوجدتها موجة نشر الديموقراطية.

* نائب رئيس المعهد الأميركي للسلام وجامعي في جامعة جورج تاون، مختص في قضايا الاقتصاد السياسي في العالم العربي. المنشور أعلاه خلاصة كتاب صدر للمؤلف حديثاً عن معهد بروكينغز بعنوان «تحديث الاستبداد في العالم العربي»

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:daralhayat-2-2-2008