نحو تركيا جديدة أم مرحلة مختلفة من تاريخ مضطرب؟

 

حسن نافعة

 

تستحق التطورات السياسية التي تشهدها تركيا حاليا وقفة تأمل متأنية لاستخلاص دروسها وعِبرَها الغنية

فيوم الخميس الماضي 29 آب (أغسطس) من عام 2007 دخل عبدالله غل قصر رئاسة الجمهورية التركية ليس كما اعتاد من قبل، ضيفا تمنعه قوانين الجمهورية العلمانية من اصطحاب زوجته المحجبة، وإنما كرئيس منتخب للجمهورية يتأهب للجلوس في مقعد مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس دولة تركيا العلمانية، ومفوضاً بممارسة صلاحياته الدستورية كافة!

ورغم امتناع قيادات الجيش عن تقديم التحية العسكرية الواجبة للرئيس الجديد، وهو تصرف غير حكيم حمل في حد ذاته رسالة واضحة الدلالة تشير إلى أن الأجواء السياسية في تركيا ليست صافية، إلا أن ذلك لن يغير شيئاً من أمر واقع جديد يقول إن حزباً ذا مرجعية إسلامية بات يسيطر الآن بالكامل، وللمرة الأولى منذ سقوط الامبراطورية العثمانية، على مختلف مفاصل الحياة السياسية في تركيا، وهو أمر ستكون له تداعيات استراتيجية بعيدة المدى.

يدرك المتخصصون أن للنظام «العلماني» الذي أسسه أتاتورك عقب انهيار الامبراطورية العثمانية سمات شديدة الخصوصية أهمها أنه لم يرتبط في نشأته بعملية تحول ديموقراطي، وهو ما يفسر ميل التجربة التركية لتوظيف العلمانية كأداة لنفي الدين ومحاربته، بدلاً من الاكتفاء بالفصل بين المجالين الديني السياسي كما هو الحال في النظم الديموقراطية.

صحيح أن أتاتورك كان يميل في البداية للإبقاء على «الخلافة» كمؤسسة دينية تتمتع بوضع أشبه بوضع الفاتيكان في روما، غير أن تطور الصراع على السلطة في مرحلة التحرير دفعه في النهاية لاتخاذ قراره بحل الخلافة والمؤسسات المرتبطة بها كافة وفرض حظر شامل على الطرق الصوفية وإلغاء النص الدستوري الذي يجعل من الإسلام دينا رسميا للدولة.

ولأن هذه الإجراءات تمت في غيبة التعددية السياسية وفي ظل سيطرة الحزب الواحد (حزب الشعب الجمهوري)، فلم يكن غريبا أن ترتبط العلمانية التركية بالاستبداد وأن تتحول تدريجا إلى ما يشبه الايديولوجية المقدسة أو الدين الجديد، ورغم إصرار الحزب الحاكم في البداية على استئصال كل ما يمت للدين بصلة، إلا أن التقاليد الإسلامية ما لبثت أن وجدت طريقها للتغلغل من جديد داخل نسيج المجتمع التركي، ساعد على ذلك استحداث آليتين إحداهما ثقافية والأخرى سياسية.

كان أتاتورك بادر، قبل سنوات قليلة من وفاته، إلى تأسيس «أكاديمية التاريخ والعلوم الاجتماعية» لتكون أداة لتسويق الفكر القومي، غير أن هذه المؤسسة البحثية ما لبثت أن وجدت نفسها، وبحكم طبائع الأشياء، تغوص في تاريخ عثماني استحال فصله عن الإسلام وتتحول، من ثم، إلى أداة لإحيائه.

وحين اضطر النظام السياسي بعد وفاة أتاتورك للسماح بنوع من التعددية المقيدة كان من الطبيعي أن توفر هذه التعددية مناخا أفضل للتنفيس عن المشاعر الإسلامية، خصوصا بعد أن قررت مجموعة ليبرالية بقيادة عدنان مندريس الانشقاق عن الحزب الحاكم إذ انطوى البرنامج السياسي لهذه المجموعة على التزام بإلغاء الإجراءات المعادية للإسلام والمقيدة لممارسة شعائره.

تجدر الإشارة هنا إلى أن التطبيق السلطوي والميكانيكي للشعارات العلمانية لفترة زمنية طويلة في تركيا كان أوجد حالة من الاغتراب الثقافي وخلق أزمة هوية شعرت بها مختلف الفئات الاجتماعية، خصوصاً الطبقات الوسطى والكادحة، وهو عامل ساعد على توليد آليات ضغط شعبي للمطالبة بتوسيع نطاق الحريات الدينية والسماح لها بممارسة الشعائر الإسلامية، ولا جدال في أن وجود هذه الحال المجتمعية الرافضة للاغتراب والراغبة في استعادة هويتها الثقافية والدينية مهد في ما بعد لقيام أحزاب سياسية ذات مرجعية إسلامية، على رغم أن هذه الأحزاب لم تبدأ بالظهور إلا عام 1970 حين قام نجم الدين أربكان بتأسيس «حزب النظام الوطني».

ومعنى ذلك أن تيار «الإسلام السياسي» في تركيا يعد في الواقع تياراً حديث النشأة إذا ما قورن بالدول العربية والإسلامية الأخرى، وهو ما من شأنه طرح تساؤلات عديدة حول أسباب النجاح المذهل الذي حققه في تلك الفترة الوجيزة نسبيا والتي لا تزيد عن ثلث قرن. وفي تقديري أن هذا النجاح يعود إلى عوامل عديدة أهمها:

1- العنف المادي والمعنوي الذي مورس ضد تيار الاسلام المعتدل من جانب القوى المعادية، خصوصاً الجيش، فقد فرض على هذا التيار أن يشق طريقه وسط معارضة قوى علمانية عاتية معادية لم تتردد في عمل كل ما في وسعها، بما في ذلك تحريض الجيش وتأليب وسائل الإعلام، لوقف نموه، ومن المعروف أن الجيش الذي شكل مركز الثقل الرئيسي للنظام السياسي التركي ونصب نفسه حارسا على قيمه العلمانية، قام بأربعة انقلابات عسكرية في 1960 و1971 و1980 و1997، وكان الانقلاب الأول أطاح حكومة عدنان مندريس ونفذ فيه حكم الإعدام بعد اتهامه بانتهاك القوانين العلمانية والتسامح مع مظاهر دينية، أما الانقلاب الأخير فاكتفى بالإطاحة عام 1997 بحكومة نجم الدين أربكان وقام بحل حزب «الرفاه» تأسيسا على التهم نفسها تقريبا، وساهم هذا العنف غير المبرر، والذي تواكب مع فشل وفساد الأحزاب والنخب العلمانية، إلى تزايد التعاطف الشعبي مع «الرفاه». 

2- ما أظهره من اعتدال فكري وسياسي، ورفض اللجوء إلى العنف أو حمل السلاح أو محاولة فرض أفكاره ومواقفه ووجهات نظره على الآخرين بالقوة ولوحظ أن منهجه وخطابه السياسي والفكري كان يزداد اعتدالا وبراغماتية بالتوازي مع ازدياد التعاطف الشعبي معه، وليس العكس، لذلك كان التيار الإسلامي يخرج من كل محنة يواجهها أشد وأقوى، ولم تنفع معه كل أنواع الأسلحة، بما في ذلك سلاح الحل والإلغاء بالوسائل القانونية.

وعكست طروحات ومواقف حزب «العدالة والتنمية» وكذا سياساته الداخلية والخارجية هذا الاعتدال بوضوح تام، فعلى الصعيد الفكري تبنى طروحات تحاول التوفيق بين هوية تركيا الثقافية والحضارية، وهي إسلامية، وبين هويتها الجيوسياسية، وهي أوروبية.

وعلى صعيد السياسة الداخلية تبنى برامج وسياسات حداثية حرص على أن لا تتناقض مع صحيح الدين وسماحته. وعلى صعيد السياسة الخارجية تبنى مواقف ذكية تتيح له هامشا واسعا من حرية الحركة والمناورة مع القدرة على الاحتفاظ في الوقت نفسه بعلاقة جيدة مع كل الأطراف، فلم تمنعه عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي من رفض التصريح للقوات الأميركية بالمرور في اراضيه لغزو العراق عام 2003 ولم تمنعه اتفاقية التعاون الاستراتيجي المبرمة مع إسرائيل من نسج علاقات قوية مع الأطراف الفلسطينية والعربية، ولم يعقه الحرص على مصالح تركيا الحيوية في قبرص عن بدء مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

3- نجاح التيار الاسلامي المعتدل في المحافظة على وحدته وتماسكه على رغم هول التحديات التي واجهها، ففي كل المرات التي صدر فيها قرار بحله عاد إلى الوجود تحت أسماء وعناوين أخرى من دون أن يصيبه تفتت أو تشرذم، فعلى رغم تعدد أسماء الأحزاب المعبرة عنه وتغيرها من حزب «النظام الوطني» إلى حزب «السلامة» إلى حزب «الرفاه» إلى حزب «الفضيلة» وأخيرا إلى حزب «العدالة والتنمية»، إلا أن ذلك لم يحول التيار إلى شيع وفرق متناحرة.

فإذا أضفنا إلى ما سبق تآكل وضعف الأحزاب والتيارات العلمانية، بفعل ظاهرة استهلاك السلطة أو فساد واستبداد نخبها، فبوسعنا أن نضع أيدينا على مجمل الأسباب التي أدت إلى تزايد معدلات التأييد الشعبي للتيار الإسلامي بانتظام.

فهذا التيار، والذي لم يحصل في أول انتخابات برلمانية خاضها عام 1973 من خلال حزب «السلام» بقيادة نجم الدين أربكان إلا على 12 في المئة من إجمالي أصوات الناخبين، استطاع الحصول على 34 في المئة من إجمالي أصوات الناخبين في الانتخابات التي خاضها عام 2002 من خلال حزب «العدالة والتنمية» بقيادة أردوغان، ثم على 47 في المئة في الانتخابات الأخيرة ليصبح التيار الأكبر والأهم على الساحة السياسية في تركيا وليتمكن من السيطرة المنفردة، وللمرة الأولى في تاريخه، على كامل أجنحة السلطتين التشريعية والتنفيذية بعد حصوله على 340 مقعدا من أصل 550 مقعدا ونجاح مرشحه في الوصول إلى منصب رئيس الدولة.

وتجدر الإشارة إلى أن وسطية واعتدال وبراغماتية تيار الإسلام السياسي في تركيا لم تحل دون الوضوح الكامل في الرؤية والأهداف والصلابة في الإرادة والقدرة على مواجهة التحديات، وهو ما ظهر بوضوح إبان أزمة انتخابات الرئاسة، فبعد أن طرح حزب «العدالة والتنمية» ترشيح غل لمنصب رئاسة الدولة لم يتراجع حين كشّر الجيش عن أنيابه وتحالف مع القوى العلمانية للحيلولة دون وصوله إلى هذا الموقع المهم، ولم يخش خوض انتخابات برلمانية مبكرة على رغم ما تنطوي عليه من مخاطر، بل أعلنت قيادته بوضوح تام أنها جاهزة لاعتزال الحياة السياسية إذا أخفق الحزب في الحصول على ثقة المواطنين وعجز عن تأمين أغلبية المقاعد في البرلمان، وحين كسب رهانه الكبير وحصل على أغلبية مريحة لم يهادن وتمسك بإعادة ترشيح غل على رغم كل أنواع الوعيد والتهديد واستطاع في النهاية أن يؤمن لمرشحه مقعد رئاسة الدولة على رغم أنف الجيش!

فهل سيتمكن حزب «العدالة والتنمية» من استخدام ما يتمتع به حاليا من صلاحيات سياسية ودستورية واسعة ليعيد بناء الحياة السياسية والاجتماعية على أسس جديدة تضع تركيا في مصاف الدول الحديثة والمستقرة ديموقراطيا وتمكنها من تحقيق المصالحة مع نفسها وتخرجها من حال الانفصام السياسي التي تعاني منها منذ عقود، أم أن القوى المعادية، وخصوصا الجيش، هي التي ستنجح على العكس في استدراج الحزب إلى معارك جانبية تستنزفه وتعيد تركيا للدوران من جديد في الحلقة القديمة المفرغة والمعيبة نفسها؟

في تقديري أن فرص نجاح حزب «العدالة والتنمية» تبدو أكبر من فرص نجاح القوى المعادية لأسباب عدة، منها:

1- فقدان الجيش للكثير من أوراقه بما يحول دون تمكينه من لعب الدور ذاته الذي تعود عليه في الحياة السياسية التركية، ومن المعروف أن عملية إصلاحية كانت بدأت في عهد أجاويد واستكملت في عهد أربكان سمحت بإعادة هيكلة مجلس الأمن القومي وتقليص صلاحياته، فالمجلس يتكون الآن من 9 مدنيين (بدلاً من أربعة) و 5 عسكريين، وأصبح أمينه العام مدنيا يتبع رئيس الوزراء، ولم تعد قراراته ملزمة للحكومة وأصبحت خاضعة لرقابة ومحاسبة البرلمان.

2- فقدان القوى العلمانية التركية الأخرى، بما في ذلك القوى اليسارية، جانباً كبيراً من صدقيتها لدى المواطن التركي بعد انكشاف انتهازيتها وانحيازها السافر للاستبداد وللفاشية القومية، والواقع أن حزب «العدالة والتنمية» يبدو الآن، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، وكأنه القوة السياسية الأكثر صدقية في الدفاع عن كل من الديموقراطية الليبرالية والعدالة الاجتماعية في الوقت ذاته.

3- الحاجة الماسة على الصعيدين الإقليمي والدولي لدعم النموذج التركي وهو نموذج يصنفه البعض بأنه «إسلامي علماني معتدل» لموازنة النموذج الإيراني الشيعي الأصولي، من ناحية، ولمكافحة الجماعات السنية المتطرفة من ناحية أخرى. وهناك أوساط فكرية وسياسية غربية، أوروبية وأميركية عديدة تدرك بوضوح أن إجهاض النموذج التركي سيفتح الباب واسعا أمام اتساع نطاق التطرف الأصولي في المنطقة. ولفت انتباه المراقبين تراجع ساركوزي عن مواقفه المتشددة من موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بعد الانتخابات التركية الأخيرة.

ليس معنى ذلك أن الطريق أمام تركيا جديدة، حديثة وديموقراطية ومستقرة، بات في متناول اليد، فهناك عوامل خارجية كثيرة يمكن أن تعيد خلط الأوراق من جديد على الساحة التركية، في مقدمها إقدام بوش على توجيه ضربة عسكرية لإيران، حينئذ تنشأ حال إقليمية تدفع الجيش التركي إلى اغتنام الفرصة والعمل على استعادة هيبته، لتعود تركيا للدوران في الحلقة المفرغة من جديد.

*كاتب مصري.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الحياة اللندنية-4-9-2007