تبني الديمقراطية وتوديع الاستبداد الرباعي

 

 

د. طيب تيزيني

 

أثارت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تركيا، تساؤلات كبرى في أوساط من أقصى "اليسار" إلى أقصى "اليمين" وما يندرج بينها من اتجاهات تأخذ بـ"الوسطية والاعتدال" مرجعيات حاسمة لها.

ولابد أن يكون هذا الاهتمام الكبير بهذه الانتخابات قد أخذ بمعطيين اثنين، أو أكثر، بعين الاعتبار، أما المعطى الأول منهما فيتمثل فيما قد يصح التحدث عنه تحت فكرة فرادة الأمر المعنِي، هنا، في التاريخ السياسي عموماً والتاريخ السياسي الإسلامي على نحو الخصوص.

ويأتي المعطى الثاني ليمنح الأمر أهمية خاصة؛ ونعني به الطابع التطبيقي المباشر في بلد يعدّ المسلمون فيه نسبة عالية. ومن ثم، يتعدى الحدث الانتخابي التركي حالة التنظير السياسي أو السوسيولوجي أو الأيديولوجي إلى الواقع العيني.

ما حصل في الانتخابات الرئاسية التركية مؤخراً، يقدم أمثولة ربما تكون ضخمة الدلالة، لقد حصل المرشح الرئاسي "جول" على أكثرية ضئيلة في الجولة الثالثة، ففاز بالرئاسة عبر انتخابات قيل إنها عالية النزاهة. إنه فوز متواضع، ولكنه كامل الشرعية الدستورية، وهو بهذا، أعطى الدلالة القاطعة في بلد ربما يدخل في عداد البلدان العربية أو أكثر قليلاً، على أن الديمقراطية يمكن أن تتحقق، كذلك، في تلك البلدان، وهذا يناقض الخطاب السياسي العربي، في معظم تجلياته، حيث يزعم أصحابه أن الديمقراطية أو النظام الديمقراطي لا يمتلك إمكانية التحقق عربياً.

أما الأسباب الكامنة وراء ذلك فلعلها كثيرة، ولكن اثنين منها تقعان في مقدمتها، ويأتي الأول ليتحدد في أن النظام المذكور وليد تاريخ وواقع مختلفين عن تاريخ وواقع البلدان العربية، أو البنية العربية الخصوصية.

ولذلك، إذا ما برزت الدعوة للأخذ بالنظام الديمقراطي عربياً، فإن الأمر المتعلق بهذه الدعوة فاسد منهجياً ونظرياً وتاريخياً تراثياً وحضارياً، من حيث الأساس. إن رفض الديمقراطية هنا يلبس إطار الدفاع عن أصالة التاريخ والتراث العربيين أولاً، وعن خصوصية الواقع العربي ثانياً.

ويبرز السبب الثاني في الاعتقاد بأن النظام الديمقراطي لا يمكن تطبيقه كيفما شاء الناس، وإنما هو يحتاج شعباً ناضجاً أو في حال النضج لتقبّله ولما كانت الشعوب العربية "غير ذلك"، لذا يتعذر الأخذ بالنظام المذكور حالياً، و"لعله" يصبح ممكناً في مستقبل ما لاحق.

والمفارقة الملفتة هنا تقوم على التقاطع بين هذا السبب الثاني، وبين الخطاب الاستشراقي الكلاسيكي (الأوروبي)، والجديد (الأميركي) وموضع التقاطع هو أن الخطاب المذكور في شكله الأول يرفض الإقرار المبدئي بإمكانية إيجاد تربة عربية صالحة للديمقراطية في الحالة العربية (الشرقية أو السامية)، سواء الآن أم غداً.

أما الشكل الثاني من هذا الخطاب فيعلن إمكانية زرع الديمقراطية في الحالة المذكورة، ولكن بشرط أن يتم ذلك على أيدي أهل الخير الأميركيين أولاً، وكذلك أو ربما كذلك، عبر قعقعة السلاح ونار الحروب ثانياً.

إن فحصاً أولياً وموضوعياً للمسألة، هنا، يقتضي إدخال النظام العربي بوصفه سبباً حاسماً وراء مرجعية التشكيك في صلاحية الديمقراطية عربياً، بل إدانة أو اعتقال مَنْ يدعو لرأي آخر يقر بالصلاحية المذكورة، ولوْ عبْر مدى تاريخي معين.

فالنظام العربي يتأسس -في عمومه وإجماله - على ما حددناه في كتابات سابقة تحت مصطلح "الاستبداد الرباعي"، الذي يقوم على الاستفراد بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالحقيقة.

وبنظرة مدقّقة، يمكن أن يتضح أن نظاماً يقوم على ذلك الاستبداد المركّب هو نظام أمني يكتسب شخصية "دولة أمنية"، لا تجد خصومها في المعارضين والطامحين إلى السلطة فحسب، وإنما في المجتمع برمته (الأهلي والمدني والعمومي الكلي) . أما ذلك فللمصادرة على ما قد يتكوّن من رهانات تاريخية مفتوحة يمكنها أن تحدث قفزة من التقدم لصالح الجميع.

ذلك النظام الأمني العربي يجد نفسه مفتوحاً أمام استكمال شمولي بحيث يصبح هو وحده مرجعية المجتمع أو المجتمعات العربية، وليس العكس. أما الآخرون من الفئات والطبقات والوحدات الاجتماعية فعليهم -مع أهل السياسة- أن ينصاعوا بطريقة أو بأخرى.

فالاقتصاد والسياسة والثقافة والقضاء والتعليم...إلخ تستمد نسقها من قيادات هذا النظام، بدءاً ممن نصّب نفسه قائداً أبدياً، وانتهاء بالأجهزة الأمنية الكبيرة والصغيرة، التي تكمن مهمتها في تجفيف منابع المجتمع عبر الفساد والنهب واللصوصية والطائفية، وغيرها.

من هنا، يشترك هذا النظام الأمني الشمولي مع الإسلام السياسي الشمولي في كونهما وجهين لمسألة واحدة. وهنا، كذلك، تبرز أهمية فوز "جول" التركي بالرئاسة التركية، لكونه قد يتحول إلى نموذج حيّ لتبني الديمقراطية، وتوديع الشمولية.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية-11-9-2007