الديمقراطيون العرب وواشنطن.. المأزق المشترك

 

صلاح الدين الجورشي

 

 

تستعد العاصمة القطرية الدوحة، لاحتضان المؤتمر الثاني للديمقراطية، الذي سينعقد ما بين 27 و29 من شهر مايو الجاري

المؤتمرون سيناقشون العديد من المسائل الشائكة والهامة المتعلقة بالأحزاب السياسية والمجتمع المدني لكن التحدي الرئيسي الذي يواجه هؤلاء الديمقراطيين العرب يتمثل في التغلب على الشعور بالإحباط الذي تسرّب إلى صفوفهم خلال الفترة الأخيرة.

في الدوحة، سيُـناقش المؤتمرون عديد المسائل الشائكة والهامة المتعلقة بالأحزاب السياسية والمجتمع المدني وثقافة الديمقراطية والحوكمة (الحكم الرشيد أو الصالح) والشفافية ودور القوى الخارجية ومراكز البحث والقطاع الخاص، لكن التحدي الرئيسي الذي يواجه هؤلاء الديمقراطيين العرب، الذين سيكون عددهم في حدود 300 شخصية، والذين سيقدمون من مختلف الدول العربية، يتمثل في التغلب على الشعور بالإحباط الذي تسرّب إلى صفوفهم خلال الفترة الأخيرة وجعل البعض منهم يعتقد بأن قوس الانفتاح السياسي، بمعظم دول المنطقة، الذي فتح قبل أربع سنوات، هو في طريقه إلى الإغلاق من جديد.

إن أحداث 11 سبتمبر 2001، فتحت أبوابا شتى، بعضها أدى إلى إشعال أكثر من حرب، وبعضها فتح ملفات كانت مخفية في أدراج عميقة، ومن هذه الملفات، ملف الاستبداد في المنطقة العربية وعلاقته بظاهرة الإرهاب، التي انتقلت من الشرق الأوسط إلى قلب العواصم الغربية.

وجاء إقرار أمريكي من أعلى المستويات، بأن الإدارات المتعاقبة في واشنطن كانت مخطئة عندما غضّـت الطرف عن الاستبداد العربي، ظَـنا منها بأن ذلك ظاهرة شرقية لا علاقة لها بالأمن القومي الأمريكي.

هذا التحول الذي بدا جِـذريا في السياسة الخارجية الأمريكية من خلال ربط المصالح بالديمقراطية، كاد أن يُـحدث زلزالا في العالم العربي، خاصة عندما أكّـدت واشنطن على أنها تنوي إعادة تشكيل المنطقة، بل وذهب الأمر بكونداليزا رايس، إلى أن تبتدع مصطلحا مُـخيفا عندما تحدثت في بعض المناسبات عن "الفوضى الخلاقة".

الأنظمة العربية من الارتباك إلى الارتياح

لقد ارتبكت الأنظمة العربية بالتّـأكيد، وقررت العديد منها أن تنحني حتى تمر العاصفة، وهو ما أدّى عمليا إلى حدوث بعض التغييرات الملموسة في أكثر من بلد. لكن هذه الأنظمة تعامل معظمها مع المستجدات الطارئة بذكاء شديد، رغم أن خصومها يتّـهمونها دائما بالغباء.

كان هناك رهان على الفشل الأمريكي وتراجع إدارة الرئيس بوش عن ادِّعاءاتها بأنها ستفرض الديمقراطية. فالأنظمة كانت ولا تزال تملك أوراقا عديدة لإقناع هذه الإدارة بخطأ حساباتها، وقد استُـعملت بعض هذه الأوراق بحذق ملحوظ.

فالتخويف بخطر صعود الإسلاميين، كان أحد أبرز هذه الأوراق وأكثرها تأثيرا، وتجلى ذلك بوضوح مع تزامن نجاح حركة حماس والاختراق الكبير الذي حققه الإخوان المسلمون في الانتخابات البرلمانية المصرية، ثم جاءت أخطر رسالة على يد حزب الله في تصدّيه للآلة العسكرية الإسرائيلية بطريقة لا سابقة لها في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.

أما بالنسبة للنُّـخب العربية المتعطِّـشة للديمقراطية، فقد وجدت نفسها بين نارين، نار الأنظمة التي اكتَـوّت بها منذ أكثر من نصف قرن، ونار الولايات المتحدة الأمريكية، التي حوّلت العراق إلى فوضى مهلكة للحرث والنسل.

وبالرغم من أن هذه النُّـخب حاولت إلى قدر ما أن تستثمر المناخ السياسي الجديد الذي خلقته المبادرة الأمريكية، إلا أن البعض يعتقدون بأنها أساءت إدارة هذه المرحلة، مما جعلها عمليا تقدِّم خِـدمة جليلة للأنظمة من خلال تصدّيها الأيديولوجي لكل أشكال التدخل الأجنبي، وتسهم بشكل فعال في إفشال الرِّهان السياسي الأمريكي من خلال خلق مناخ معادي لكل ما هو أمريكي، والدفع نحو مقاطعة المؤسسات الأمريكية.

استغلت الأنظمة بخُـبث شديد تخبُّـط الرئيس بوش ومن تبقَّـى من فريقه في مواجهة المأزق العراقي، لتعمل على استعادة ما تنازلت عنه في السنوات الثلاثة الماضية، وتبدو الحالة المصرية أهم شاهد على ذلك.

فالنظام المصري قرر تحجيم حركة الإخوان من جديد، وذلك باستعمال مختلف الوسائل الأمنية والقضائية والدستورية والإعلامية، وقد لازمت الإدارة الأمريكية الصّـمت على ما يجري، بعد أن كانت تحتجّ فيما مضى على كل صغيرة وكبيرة.

قيادات طلابية عربية وأمريكية شاركت في دورة نظمها برنامج ميبي في السفارة الأمريكية في القاهرة صيف عام 2006 

تراجع جهود الدمقرطة في المنطقة

ويشير مراقبون إلى تجارب أخرى، كان يراهن عليها بوش سابقا ويعتبرها "نماذج واعدة" هي بصدد المراوحة في مكانها أو هي في حالة الْـتِـفاف على مكاسب تحقّـقت في السابق، ويذكرون في هذا السياق، كلا من الأردن والبحرين، أما لبنان، فقد تحوّلت "ثورة الأمل" إلى كابوس مُـرعب، بعد أن انتقل حزب الله من لُـعبة الكبار ليتورّط في جُـحر الضب اللبناني.

أما العقيد القذافي فقد استعاد بعض خطابه القديم فيما أعاد اليمن إنتاج أوضاعه بعد آخر انتخابات رئاسية تصور البعض أنها كادت أن تغير أشياءً كثيرة في ذلك البلد. أما بالنسبة لتونس، فقد أظهرت قُـدرة على الممانعة، رغم محاولات الضغط التي مارستها بعض الأنظمة، ومنها إدارة الرئيس بوش.

وبعد أن كانت السعودية في حالة دفاع، تمكّـنت من الانتقال إلى خانة الهجوم بفضل دبلوماسيتها النشطة، التي أقنعت واشنطن بأنه لا يمكن تهميشها أو الاستغناء عنها في كل عملية تستهدف إعادة ترتيب أوضاع المنطقة.

في هذه الأجواء، بدا وكأن آليات المشروع الأمريكي لدمقرطة المنطقة، تتراجع الواحدة تلو الأخرى وتفقد بريقها الأول.

في مقدمة هذه الآليات، "منتدى المستقبل"، الذي انبثق عن مبادرة مجموعة الدول الثمان الصناعية، هذا المنتدى بدا هزيلا وغير فاعل في آخر اجتماع له في العاصمة الأردنية عمان، ولم يقف ذلك عند حدود الاجتماعات الرسمية التي لم تعُـد تُـعقد على مستوى عالٍ جدا، كما حصل من قبل في الرباط والبحرين، بل تعدّت العدوى إلى منتدى المجتمع المدني، الذي يعقد بشكل موازي للاجتماعات الرسمية، حيث اعتُـبِـر اجتماع عمان من أضعف المنتديات وأكثرها سوءً في التنظيم والمحتوى، ولا يستبعد بعض المطَّـلعين أن يكون المنتدى القادم، الذي ستحتضنه صنعاء، بمثابة عملية دفن لهذا الهيكل، الذي راهن عليه الكثيرون.

مأزق مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية

أما الآلية الثانية، التي تمر بمأزق فعلي، فهي "مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق الأوسطية"، التي أسِّـست عام 2002، والتي تُـعرف بمؤسسة "ميبي"، هذه المؤسسة التي تمّ استحداثها بقرار رئاسي، لتكون بمثابة الذراع المالي لوزارة الخارجية في تنفيذ خطّـة نشر الديمقراطية بمنطقة الشرق الأوسط الكبير.

لقد أنفقت هذه المؤسسة أموالا كثيرة، بلغت ما بين 2002 و2005 حوالي 293 مليون دولار، ودعمت مشاريع عديدة في المنطقة، حيث أطلقت أكثر من 400 برنامجا في معظم دول المنطقة، لكنها لم تُـحدِث التغيير الذي وعدت به، والأهم من ذلك، أنها لم تكسب ثقة قطاعات واسعة وفعلية في صفوف المجتمعات المدنية العربية.

إن ربط مساعدة الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بالحكومة الأمريكية، أحرج الكثير من هذه المنظمات، التي شعرت بأن قبولها لهذه الصيغة، سيفرِض عليها تحمّـل تداعيات اختيارات سياسية غير قابلة للدفاع أو التبرير، ولا تستبعد بعض المصادر المطّـلعة بأن يقع اللجوء مستقبلا إلى الفصل بين مؤسسة الميبي والحكومة الأمريكية.

أساس معركة الديمقراطية

أما الآلية الثالثة، التي رغم أنها لم تبدأ بعد في العمل، فقد أصِـيبت، فيما يبدو، بالسكتة القلبية، وهي الصندوق الذي تمّ استحداثه على إثر مخاض طويل شهدته الاجتماعات الرسمية وكواليس منتدى المستقبل، هذا الصندوق الذي تم الاتِّـفاق على أن تُـموِّله مختلف الحكومات الغربية والعربية، حتى يتولّـى القيام بدور المُـموِّل للمنظمات والأحزاب الديمقراطية في المنطقة، كصيغة عملية يتم من خلالها تجاوز عقبة التمويل الخارجي، التي كانت حكومات المنطقة ولا تزال تعترض عليه وترفضه.

هذا الصندوق ما أن تمّ وضع ترتيباته التنظيمية واختيار هيئته المستقلة، التي ستتولى إدارته، حتى عصّـفت به أزمة داخلية، دفعت برئيسه وزير حقوق الإنسان السابق بختيار إلى أن يُـعلن استقالته، ويبدو أن صديقة فولفوفيتز السيدة شاه، كانت مكلفة بتوجيه هذا الصندوق بشكل يتعارض مع صلاحيات رئيسه، الذي رفض أن يكون مجرد واجهة، وقد انعكست فضيحة البنك الدولي على خلق جو غير مريح، مما انعكس سلبا على صورة الصندوق ودوره ومدى استقلاليته.

هل يعني كل ما سبق بأن مشروع دمقرطة المنطقة قد انهار كليا وأن الأنظمة المستبدّة قد عاد لها مُـطلق الأمر في تسيير شعوبها كما تشاء، دون رقيب خارجي؟

لاشك في أن الملف العراقي قد احتلّ الأولوية القصوى عند إدارة الرئيس بوش، غير أن المعلومات الواردة من واشنطن تؤكِّـد بأن الجمهوريين والديمقراطيين متّـفقون على عدم التخلي عن هذا الخيار، الذي سيبقى قائما، وقد يشهد دفعا جديدا مع أيدي الحزب الديمقراطي في صورة انتصاره المحتمل.

كما أن الآليات المعتمدة، قد تخضع للمراجعة مع الاحتفاظ بنفس الهدف، لكن الأهم من ذلك، هو الكيفية التي سيُـواجه بها الديمقراطيون العرب المرحلة القادمة بعد أن اقتنع الكثيرون منهم بأن معركة الديمقراطية هي في الأساس معركة داخلية، تُـحسم بمدى قدرتهم على حسن استثمار الإمكانيات المحلية لتغيير موازين القوى؟

صلاح الدين الجورشي – الدوحة

المصدر : swissinfo   27 أيار- مايو 2007