محنة الديموقراطية العربية بين خطابين مزدوجين

 

رضوان زيادة

 

تحتاج عملية التحول الديموقراطي في أي نظام إلى عدد من الشروط، فالمؤشرات الاقتصادية السلبية مثل ارتفاع نسبة البطالة وتدني فرص الحصول على وظائف وتدني مستوى البنية التحتية وانعدامها في بعض المناطق، لا تشكل عاملاً حاسماً في عملية التحول الديموقراطي وإن كانت تمثل عاملاً رئيسياً في ازدياد التذمر من سياسات النظام، فالأزمة الاقتصادية كما يقرر الكثير من الخبراء غير كافية لإسقاط النظام، لكن المهم هو الآثار المترتبة عليها، لا سيما في ظل عدم قدرة النظام على تسوية هذه الأزمة الاقتصادية أو إدارتها. فالأزمة الاقتصادية غالباً ما تتحالف مع الأزمة السياسية لتشكّلا معاً نفقاً صعباً لا يستطيع أي نظام أن يتجاوزه، من دون تقديم تنازلات حقيقية تجعله يدخل في التفاوض مع القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة الأخرى.

كما أن الضغوط الدولية تعد أيضاً من المؤشرات المهمة على ضعف النظام وعزلته عبر الضغط الدولي الشديد الممارس ضده، وعلى رغم تقديرنا لوجهة النظر القائلة إن العوامل الدولية يمكن أن تسهم في اعتلال النظام السلطوي، لكنها تلعب دوراً ثانوياً بالمقارنة مع العوامل المحلية والداخلية في تغيير النظام أو إسقاطه، إلا أن العوامل الخارجية تلعب دوراً محورياً في تحطيم صورة النظام التي يعتمد عليها في سياسته الخارجية والإقليمية، خصوصاً بالنسبة للأنظمة الأيديولوجية التي ترتكز في الكثير من شرعيتها على الشعارات المنسوجة بعناية لتحاول تثبيت شرعيتها داخلياً عبر التوافق مع سياساتها على المستوى الإقليمي والدولي. كما أن السياسة الدولية وتوجهاتها تلعب دوراً في توجيه دفة السياسات المحلية والوطنية داخل كل بلد، فعندما يتبنى المجتمع الدولي سياسة تعتمد على احترام حقوق الإنسان وتعزيز الشفافية ونشر الديموقراطية تسعى الحكومات المحلية للتكيف – ولو بشكل مصلحي ومؤقت - مع أجندته السياسية مما يكون له دور فاعل في تقوية وتعزيز نشاط المجتمع المدني الذي يرتكز في مبادئه على هذه المقولات ويستند إليها.

وهكذا بعد حرب العراق وفشل الولايات المتحدة في العثور على أسلحة الدمار الشامل تبنت إستراتيجية تعتمد في سياستها الخارجية على نشر الديموقراطية وأطلقت عدداً من المبادرات لتنفيذ تلك الأجندة مثل مبادرة منطقة التجارة الحرة لدول الشرق الأوسط ومبادرة الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا وبرامج مساعدة الديموقراطية للشرق الأوسط ومبادرة الشراكة للشرق الأوسط ومكتب وزارة الخارجية للديموقراطية وحقوق الإنسان.

أما منطقة الشرق الأوسط للتجارة الحرة، فإنها تركز على الإصلاح السياسي والاقتصادي في الدول العربية من خلال آليات اقتصادية، حيث تقوم فكرتها الأساسية على أن الليبرالية الاقتصادية والنمو الاقتصادي الناتج عنها من شأنه أن يؤدي إلى قيام طبقة وسطى مستقلة تسعى إلى دعم التحول الديموقراطي وحكم القانون.

وقد فجرت هذه الاستراتيجية جدلا واسعا داخل أروقة النخبة العربية وحتى داخل الأوساط السياسية والأمنية الأميركية. وقام الكثيرون في العالم العربي بالتشكيك فيها وفي مدى نجاعتها في حين رأى بعض المراقبين أنها حققت خطوات لا بأس بها، حيث أسفرت عن اتخاذ بعض الخطوات الإيجابية على طريق الإصلاح السياسي في بعض الدول العربية، الأمر الذي أرجعه البعض إلى الإجراءات الجادة التي اتخذتها الإدارة الأميركية في هذا الصدد، فضلا عن عدم تردد الإدارة في الإنفاق الوفير على المشروعات والبرامج المختلفة التي تسعى لدعم جهود نشر الديموقراطية. لكن، وعلى صعيد آخر، برز تيار داخل الولايات المتحدة رأى أن الديموقراطية التي تسعى إدارة الرئيس بوش إلى إقرارها في المنطقة العربية، وتخصص من أجل نشرها جهودا ومبالغ هائلة، قد لا تكون بالضرورة في مصلحة الولايات المتحدة في الأجل المنظور، ذلك أنها قد لا تبقي على التنسيق الاستراتيجي مع واشنطن، ولعل نتائج آخر أو أحدث انتخابات شهدتها بعض الدول العربية خاصة في العراق وفلسطين ومصر خير دليل على ذلك، فخلال تلك الانتخابات التي أجريت خلال العامين 2005 و2006، كان للتيارات الإسلامية والحركات الراديكالية حضور ملحوظ ومؤثر في مجريات تلك الانتخابات، وكانت نتيجة إجرائها في أجواء تتمتع بقدر لا بأس به من النزاهة، أن حملت إلى مواقع السلطة والتشريع في هذه الدول أشخاصا ذوي توجهات مناوئة للولايات المتحدة. وبالعودة إلى الدراسة الجادة التي قامت بها كل من تمارا كوفمان ويتس Tamara Cofman Wittes وسارا يركسSarah Yerkes، الباحثتان بمركز سابان لدراسات الشرق الأوسط، التابع لمعهد بروكينغز Brookings Institution في واشنطن تحت عنوان: «ثمن الحرية: تقييم أجندة إدارة الرئيس بوش من أجل الحرية»، حاولت الباحثتان تقويم أجندة بوش من أجل الحرية والديموقراطية في العالم العربي، من خلال الوقوف على ما حققته تلك الأجندة خلال السنوات القليلة الماضية، مع محاولة رصد أهم المعوقات التى تعرقل تحقيق تلك الأجندة لأهدافها.

لقد أظهرت الدراسة وبشكل واضح أن مجموع المبالغ التي صرفتها الإدارة الأميركية لنشر الديموقراطية لا تعتبر ذات قيمة مقارنة بما خصصته الولايات المتحدة للإنفاق على برامج دعم الديموقراطية في دول أوروبا الشرقية بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة. وعلى سبيل المثال فقد أنفقت الولايات المتحدة في السنوات الخمس الأولى بعد انتهاء الحرب الباردة ما قيمته 4.264 مليار دولار على برامج دعم الديموقراطية في الجمهوريات السوفياتية السابقة، وبصورة أخرى كان نصيب الشخص الواحد في هذه الجمهوريات من مخصصات الولايات المتحدة ما قيمته 14.6دولار، في حين أنفقت الولايات المتحدة على كل مواطن في الشرق الأوسط منذ حوادث 11 ايلول (سبتمبر) 2001 ما قيمته 80 سنتاً.

لعل ذلك يؤشر على «الجدية» الأميركية في نشر الديموقراطية، ويعطي فهماً أوضح للانعطاف الأميركي باتجاه سياسة أخرى تقوم على تشجيع «قوى الاعتدال» مقابل «قوى التطرف» كما بدا واضحاً من زيارة وزيرة الخارجية الأميركية إلى المنطقة مع بداية عام 2007.

لكن، مقابل هذه الازدواجية الأميركية في دعم الديمقراطية وجدنا وخلال الفترة ذاتها خطاباً عربياً مزدوجاً، فقد كان هذا الخطاب وعلى مدى سنوات طوال يعتبر أن ليست للولايات المتحدة مصلحة حقيقية في قيام ديموقراطيات عربية لأن ذلك يناقض مصالحها، لكن حين انتقل الخطاب الأميركي إلى الضفة الأخرى لجهة دعم الديموقراطية العربية انتقل الخطاب العربي إلى الضفة المقابلة مع المحافظة على الخطاب ذاته تجاه الولايات المتحدة، وطور الخطاب العربي مفردات خاصة به وصلت لحد دعم الأنظمة العربية في وجه الضغوط الخارجية وأولها الأميركية، بمعنى أن الخطاب العربي بدا مستعداً للدفاع عن الأنظمة التي ناضل ضدها مقابل الهجمة الديموقراطية الأميركية.

وبذلك تكون الديموقراطية العربية أمام محنة حقيقية في ظل ازدواجية الخطاب الأميركي والعربي على السواء، وكل ذلك لا يبشرنا بأن ديموقراطية ما ستولد من رحم هذه الازدواجية. وسيكون مصيرها الإهمال كما حدث على مدى عقود سابقة خلت.

*كاتب سوري

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الحياة اللندنية-6-3-2007