في نقد العـقل الحزبي

 

نصري الصايغ

 

كما لم يخرج أي شيء سليماً من الحرب اللبنانية، كذلك الأحزاب. فالخراب الذي احتل مساحة واسعة من الأرض، ومدى شاسعاً من الفكر، وعدداً وافراً من المؤسسات، لم يوفر الأحزاب، فعاث فيها إحباطاً وانشقاقاً، فبدت غريبة عن ذاتها، وفي غربة عن محيطها، وفي اغتراب عن فكرها. أي أن أحزاب ما قبل الحرب، قلما نجدها تشبه أحزاب ما بعد الحرب. ومع ذلك، هناك حال استقالة مريعة، من عناء البحث عن الأسئلة، مصحوبة بوباء تفشى كثيراً وهو ليس سرياً، إذ أن الحق في كل ما جرى ... على الآخرين. العقل الحزبي الذي أنهكته "فلسفة الحرب" والمبارزات الكلامية أبانها،  ليس وليد الآن، ولا الأمس القريب، بل يضرب عميقاً في بنية المؤسسات وسلوكهما ونهوجها، إضافة إلى انبثاقه من مراكز القوة، أو أطراف الضعف. أي ما يحصل من استقالة للفكر والأسئلة، نابع من أن العقل الحزبي اتسم مراراً بمجموعة أعطاب خلفت فيه عجزاً مريعاً في الإبداع والفكر، وقدرة هائلة على الاجترار والتبرير، وجرأة كافية لأن يدعي، أنه ما زال موجوداً وأن فكره أو مشروعه، هو الوريث الشرعي للمستقبل.

هذا العقل الضارب في عمق المؤسسات الحزبية، ومنذ سنوات أو عقود، مسؤول عن الحال التي وصلت إليها الأحزاب، بحيث أصبح وجودها، أو غيابها، قليل التأثير في الحياة السياسية، أو في الحياة العامة. وإلا كيف نفسر عودة الوجوه والعائلات السياسية القديمة، أو من يمثلها، أو من يشبهها، وإن تناقض معها، وهذه في معظمها كانت غائبة ومغيبة أو مهمشة أثناء الحرب؟ وكيف نفسر انحسار عدد المنضوين تحت لواء الأحزاب. فالضمور سمة مشتركة بينها، وليس ما يفتن عقول الطلاب الثانويين والجامعيين الذين يشكلون في العادة المادة الأولى للأحزاب؟ وكيف نفسر أيضاً أن متوسط أعمار الحزبيين الملتزمين هو ما فوق الثلاثين؟ بل كيف نفسر نشاطهما المحموم إبان الحروب اللبنانية المتعاقبة، واستقالتها العشوائية، في حال السلم الداخلي؟ ثم كيف نفسر، أن معظم المثقفين الذين تحزبواً في أحزاب، وتنظموا، أضحوا يغردون خارج سربهم، والبعض التحق بالأسراب الطائفية المتشكلة من جديد؟ قد يكون هذا التعميم مجحفاً، إذ لا يعترف بخصوصية أحزاب مذهبية أو دينية، تجدد في خطابها وتوجهها وفي جسمها الحزبي كذلك. إلا أن لمنطق هذه الحزبيات الناشئة، والتي تشكلت حديثاً، حقلاً آخر، ليس مجال بحثه الآن.

فلسفة التبرير

إذاً، ما هي السمات التي تجعل من العقل الحزبي، مستقيلاً عن الأسئلة وممتنعاً عنها!

أولاً: العمود الفقري الذي به تتماسك حلقات العقل الحزبي هو التبرير. التفسير أو التحليل، هما جزء من عملية أشمل. إنهما موظفان في خدمة التبرير فأخطاء الماضي لها تفسيراتها التي تبرر حدوثها. والنكوص له حيثياته والانشقاقات لها تبريراتها والافشالات المتعاقبة كذلك.

ومنطق التبرير يساهم أساساً في إيجاد براءة ذمة للقيادات التي ارتكبت الأخطاء والنكسات والهزائم والتراجعات. كما أن منطق التبرير الذي يبرئ ساحة الماضي هو وسيلة لعقد ارتكابات جديدة. "فالشبيه يدرك الشبيه"، والأخطر هو أن فلسفة التبرير تعبد الطريق الانتهازية، إذ تسخر الانتهازية كل الوسائل من أجل المحافظة على مصالح قوى ساهمت في تراكمات الماضي وترغب في الاستمرار في لعب دور جديد، بمعزل عن رغبة الآخرين أو مقدرة المؤسسات على النهوض بأعباء لمرحلة.

ثانياً: اقتناع الاجتهاد يجعل من النصوص السالفة قدساً لا يمس فقط من حيث الشكل، أو أن النص السالف أو النصوص التأسيسية والتجارب السابقة تصبح عجلة لتسويق الواقف السياسية وكم تناقضت هذه المواقف والنصوص التي يتم تحنيطها، وتقام لها مراسم الإجلال والتكريم دائماً، إنما هي في غفلة عن الطقس مجموعة من التنبؤات الفكرية التي يصح تعليق أي موقف عليها. وكون الاجتهاد ممتنعاً، لأنه متناقض مع منطق التبرير، تصبح "الأفكار" والأنظمة والمؤسسات نتاجاً  يجبر الأشخاص من دون سواهم. ثم سرعان ما تنهار هذه الأفكار والأنظمة والمؤسسات، لأنها مرتكزة على قاعدة الولاء للأشخاص، لا العكس، والنماذج مثيرة وفي هذا الإطار يصح أن تسمى سياسة الفكر سياسة الانتقاء الموسمي للأفكار، بحسب مقتضيات المصالح الخاصة.

ثالثاً: ولأن التبرير سيد والاجتهاد الفكري والإبداع ممتعان، يتحول ما يسمى الحوار فولكلوراً كلامياً، يتمتع بحيوية لفظية وأحياناً اتهامية، من دون أن يؤدي إلى صياغات منطقية ومفهومة حوار المؤتمرات أشبه بأجواء المؤامرات التي يوظف فيها "الفكر" في خدمة خطة ما. وهذه الخطة، نادراً ما تكون موجهة إلى العمل لنصرة مسألة ما. إن المنطلق الحزبي مجادل لا محاور، وهو في علاقته مع الآخرين، أما تبعي إن تيسر، وإما فوقي أن استطاع. ولا مبالغة أبداً، إذا كنا نعتبر أن الحوار من أهم علاماته وأبرزها حفظ حدود الاختلاف واحترامها والتفاني في الإقبال على حدود الاتفاق فالحوار يفترض الاختلاف، لكن الاختلاف مع أنه موجود، فهو ممنوع، فتتم عملية الحوار بالقهر والقسر، إن بسلطة الحزب، أو بحرب الشائعات، أو بفولكلور، تسرب من كواليسه الباطنية، مواقف مفروضة وآراء وأفكار ومشاريع لا نقاش فيها، كم من مؤتمر ساده الحوار؟

كواليس الديموقراطية

رابعاً: أما الديموقراطية، فكما يقال حدث ولا حرج قبل الحرب هناك إرهاصات ديموقراطية داخل الأحزاب، من ذات اليمين ومن ذات اليسار، وسرعان ما تحولت هذه الديموقراطية كابوساً لدى البعض، وفوضى لدى البعض الآخر. وأثناء هذه الحرب التي تعسكرت فيها الأحزاب المتقاتلة، تراجعت "لممارسات الديموقراطية" حتى غيبت. وقد حصل هذا التغييب حتى في أحزاب كان مؤسسوها ما زالوا على قيد الحياة. وفي غياب الديموقراطية الحقيقية وضوابطها الناظمة للعلاقات، يسود منطق السيطرة للأقوى، عدداً أو مالاً، أو أحلاماً، في الداخل والخارج. أن الديموقراطية يصعب تطبيقها أساساً في الأحزاب التعاقدية، أو ذات النمط القبلي، حتى وإن شاء معتنقوها ممارستها. فهناك مجموعة من المواقع الطبيعية لهذه الممارسة فكيف تكون حال الديموقراطية في حزب، أو في أحزاب، ذات بناء مركزي تسلسلي؟ وقد نتج من هذا الغياب، تهجير الأدمغة وفقدان التواصل الفكري والروحي والتنظيمي، كما جعل من الأحزاب اللاديموقراطية في سلوكها، فاقدة لكل صدقية لدى مطالبتها بالديموقراطية في المجتمع، تماماً كما هي حال الأحزاب الطائفية التركيب والبنى والفكر، التي تطلب بإلغاء الطائفيات أكانت سياسية أو ثقافية أو حقوقية أو اجتماعية.

ثم كيف يقبل العقل التبربري الاجتهاد المبدع والحوار والديموقراطية؟ أنه بذلك يلغي نفسه وهذا ما اعتاد عليه.

خامساً: السمة الخامسة التي طبعت مرحلة الأحزاب في لبنان، إلا لماماً، ولم تنجح، هي سمة غياب أو تغييب قصدي للنقد الذاتي الخاص، والنقد الموضوعي العام. وعلى رغم بعض الكتب التي ظهرت في الآونة الأخيرة وبعض المقالات والدراسات، وعلى رغم الاطلاع على بعض مسودات نقد حزبي، فإننا نرى أن هذا النقد مشوب بالتبرير أيضاً. مع العلم أن ما نشر حتى الآن قليل جداً، وأمام مدى التراجع الذي استحقته هذه الأحزاب. إن كلاسيكيات الأحزاب لا تتمتع بأي شهادة حسنة على صعيد النقد الذاتي، أما نقد الآخرين، أياً كانوا، خصوصاً إذا كانوا خلف المحيطات فهو متوافر وغزير و ... بلا فائدة أحياناً وغالباً ما كان النقد الذاتي التام، تبريرياً ويصب في التراجعات فأن يقال أخطأنا ولكن ... وتلي هذه المفردة سيول من الأسباب التبريرية والتخفيفية، ويتحول الخطأ فضيلة أو معجزة لأن كل تلك الأسباب التي سردها، لم تؤد إلى ارتكاب أفظع، أو إلى نكسة أروع.

إن أسئلة من نوع ما، ليبست مطروحة فنسأل مثلاً: كيف حال الوحدة لدى الأحزاب الوحدوية، والاشتراكية لدى معتقنيها، وفصل الدين عن الدولة لدى المروجين لها، والعلمانية والذين نقضوها بأحلاف طائفية مراراً وتكراراً؟ كيف حال النظام السياسي المنشود؟!!! طبعاً، لا نسأل عن الموقف العملي الواقعي من إسرائيل وما تنتجه مرحلة المفاوضات فهذا السؤال الصعب، كان هيناً في السابق وكيف يستحيل في ما بعد؟ كما نسأل الأحزاب الطائفية تاريخياً وحديثاً كيف حالك في ظل النظام الطوائفي؟ أي حروب سياسية ستخاض، بعدما أقفلت الحروب الطائفية جحيمها مؤقتاً وكم نتمنى أن تكون مؤبدة؟!

سادساً: العقل الحزبي سري للغاية ومعنى السرية هنا، أنه يحتفظ غالباً بالحقيقة ويقول عكسها للناس.

وأخيراً لم تعد الناس تصدق، وعرفت أن داخل الغرفة السرية "حقائق" لا تعلن لأن أصحابها يعلنون عكسها، أو لأنهم لا يجرؤون على مواجهة الواقع والناس، ومصابون بعجز أفقدهم السيطرة على الكلام، فقالوا أشياء ولكل مقام مقال.

لم يقولوا الحقيقة بحجة عدم إحباط الناس، وبحجة عدم تيئيسهم (حجج تبريرية دائماً) كان الناس مرآة تعكس كلامهم وكان من نتيجة هذه المقاييس، انفراط عقد القلة الباقية من الناس من حول الأحزاب، لأن الناس عرفوا أن العقل الحزبي ينقد وضعاً يشتهي أن يكون جزءاً منه، وأنه ضد نظام يرغب في أن يصبح فيه أو معترفاً به في هامشه، وأنه ضد الطائفية ... ولكن لا بد منها مرحلياً ( من يعرف كم تدوم؟!) وأنه ضد الكثير لينال من هذا الكثير القليل هذا العقل المناور، لا يتمتع بذكاء لأنه استنفذ كل وسائل المناورات وبم يعد قادراً على ابتداع الجديد أمام الناس.

أخيراً، أي أحزاب هذه الأحزاب التي استمرت بعد هذه الأعوام، أو هذه العقود.

إذا لم تع إنها ليست موجودة إلا قليلاً جداً، فقد لن تنوجد بعد زمن قريب جداً جداً.

غريب أمر بعض الأحزاب... لقد ماتت من زمان... ولكنها ما زالت قيد التداول، في بعض المناسبات التي تجتر ماضيها المجيد.

وكل ذلك بحسب المصدر نصا ودون تعليق .

المصدر : http://www.alnahdah.org